في كراتشي، لا يمضي الزمن إلى الأمام كما تعوّدنا، بل يلتفّ حول نفسه، كأنه يبحث عن مخرج من عبثية الحياة، عن معنى يضيء له عتمة الفوضى. هذه المدينة ليست مجرد تجمع عمراني، بل كائن حيّ نابض، تتنفس من شوارعها، تصرخ من نوافذها، وتهمس في أركانها الحكايات التي لم يجرؤ التاريخ على تدوينها.

ذات يوم، وجدت نفسي أتجول في سوق يشبه المتاهة؛ لا أعلم إن كنت أسير في الحاضر، أم في ظلال ماضٍ يأبى الرحيل. روائح التوابل تختلط بصدأ الحديد، وأصوات الباعة تنسج أنينًا خفيًّا للزمن. هناك، وسط الزحام والضجيج، رأيت كيف تتعايش الفوضى مع النظام، وكيف تتحوّل العشوائية إلى إيقاع تتقنه المدينة كراقصةٍ محترفة ترقص على حافة الجنون.

جلستُ في مقهى تحاصره الأزمنة، مقاعده تشهد على مئات الحكايات. تقدم نحوي شيخ يبيع الصحف، لكن عينيه كانتا تخفيان كتبًا كاملة. نظر إليّ، بصوت يحمل صمت البحر وعمق الصحراء، وقال: "كراتشي لا تعلّمك الهروب من العاصفة، بل كيف ترقص في قلبها. إنها ليست مدينة، بل امتحان يومي لقدرتك على أن تبقى حيًّا رغم كل شيء."

وعدتُ أراه من جديد، في نفس الزقاق، في نفس المقهى. كأنني أدور في دائرة مغلقة لا مخرج منها. ظننت نفسي قد ضللت الطريق، أنا الطيّار الذي لطالما وثق بحس الاتجاهات، فإذا بي أفقده بين أزقة هذه المدينة الصاخبة. رفع الشيخ عينيه وقال بابتسامة مفعمة بأسرار الزمن:

"تأخرتَ قليلاً."

أجبته: "أظن أنني كنت أدور في حلقة مغلقة."

ردّ بصوت هادئ، عميق: "أنا ظلّك… ولهذا عدت. نحن لا نلتقي إلا حين تكون مستعدًا لسماع ما كنت تفرّ منه."

ثم تابع: "كراتشي ليست مجرد مدينة… إنها بوابة. من دخلها دون أن يعرف نفسه، يُختبر. ومن خرج منها، لا يعود كما دخل. أنت كنت تهرب… من ألم، من فقد، من حقيقة تخشاها. لكن كراتشي عرّتك."

"التحديات ليست نهاية الطريق… بل بدايته."

"كراتشي مدينة تُعيد خلقك من رمادك. الحياة لا تمنحك القوة، بل تكشفها. والتحديات ليست جدرانًا تسدّ الطريق، بل مرايا تعكس جوهرك الحقيقي."

في كراتشي، تعلّمت أن الاستسلام موتٌ صامت، وأن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل التقدّم رغم حضوره. الطريق الحقيقي لا يُعبّد لنا، بل يُشقّ بالعرق، بالدعاء، وأحيانًا بالدموع.

إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى من تصل إليه هذه الكلمات:

اعلموا أن الحياة لا تمنحكم القوة، بل تفتح لكم أبوابًا لتروا أن القوة كانت فيكم دائمًا، تنتظر منكم أن تكتشفوها. التحديات ليست عوائق، بل إشارات، تعكس حقيقتكم حين تظنون أنكم فقدتم أنفسكم.

في كراتشي، أدركت أن البداية لا تولد من الراحة، بل من اختبار يكشف معدن الإنسان. فإن مررتم يومًا ببوابات الحياة كما مررتُ أنا ببوابة كراتشي، فتذكّروا:

المدن لا تغيّرنا… بل تكشفنا.

والحياة لا تُروى… بل تُعاش بكل ما فيها.

.