نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المحامون.. ضمير العدالة حين يُثقلها العبء المالي - تكنو بلس, اليوم الجمعة 9 مايو 2025 02:51 مساءً
ليست المحاماة مهنة كغيرها؛ إنها الطريق الطويل الذي يسير فيه العقل والقلب جنبًا إلى جنب، ويقف فيه الإنسان على حافة المعنى، يحاور القانون، ويجادل العدالة، ويفتش في ضميره قبل أن يُخرج صوته. المحامي لا يكتب عريضة، بل يكتب حياة، ولا يترافع عن متهمٍ فحسب، بل عن الإنسان حين يُهان، وعن الحق حين يُنكَر، وعن الكلمة حين تُشترى بثمن. من قال إن القضايا أوراق؟ هي وجوه، وأسماء، وأحلام مُعلَّقة بين سطرين. المحامي يرى ما لا يُكتَب، ويسمع ما لا يُقال، ويُترجم الدموع إلى دفوع، والانكسار إلى حجج. لكن شيئًا ما تغيّر. أصبح طريق العدالة محفوفًا بالتكاليف، وصار لكل دعوى عبء مالي، ولكل صرخة إيصال، وصار على مَن يريد أن يُسمَع... أن يدفع أولًا.
أليست الرسوم القضائية ضرورة؟ بلى، لكنها أصبحت أكثر من ذلك.. أصبحت أداة، لا تُزال بها المظالم، بل قد تُثقل بها كواهل الباحثين عن الإنصاف. وإذا كان الفقير لا يستطيع أن يدفع، فعليه أن يسكت، أو يُؤجّل مظلمته إلى حين. المحاماة في هذا المشهد لم تعُد دفاعًا عن الحقوق فقط، بل دفاعًا عن حق الناس في الوصول إلى الحق. لقد دافع جون آدامز عن جنودٍ بريطانيين في أرضٍ أمريكيةٍ ثائرة، لا حبًا فيهم، بل حبًا في العدالة، وقال: "إذا لم يحصل العدو على محاكمة عادلة، فلن يحصل الصديق على شيء". وكان غاندي محاميًا، لكنه لم يُقِم عريضة، بل أقام أمة. ترك قاعات المحاكم حين أحسّ أن العدل لم يعُد بحاجة إلى لائحة، بل إلى يقظة ضمير.
وفي مصر، حين كانت نقابة المحامين ملاذًا للفقراء، أنشأت لجان المعونة، لا تسأل عن مال، بل عن مظلمة. وكان المحامون يومًا لا يتقاضَون أجرًا على قضية تُوجِع القلب، لأنهم لم يكونوا يدافعون عن موكّل، بل عن وطنٍ في صورة شخص. ثم أتت الموجة الجديدة؛ ارتفعت الرسوم، وتكاثرت الإجراءات، وتضخّمت المصروفات، وكأن الحق يُطلَب منه أن يحمل ميزانيته على كتفيه قبل أن يدخل إلى المحكمة. فأصبح المحامي موزعًا بين جهد الدفاع، وجهد التفسير، وجهد الاعتذار عن واقع إداريٍّ معقدٍ لا يُنصف مَن لا يملك. فهل نكتفي بالحزن؟ لا، بل نقترح، كما يقترح المحامون العقلاء، حلولًا تحفظ جوهر العدالة وتيسّر طريقها.
ربما يمكن إنشاء صندوقٍ لدعم التقاضي، تموّله النقابة جزئيًّا، وتدعمه الدولة، وتُسهم فيه المؤسسات، حتى لا يُقصى أحد عن المحكمة بسبب فقره. وربما نُعيد النظر في الرسوم، لا بإلغائها، بل بربطها بمستوى الدخل، كما تفعل الدول التي تُقدّر أن الإنسان لا يُوزَن بجيبه. أو نُقرّ مبدأ التقاضي المجاني في القضايا الإنسانية البحتة: حضانة، نفقة، طرد من مسكن، اعتداء على طفل.. فهذه قضايا لا تحتمل فاتورة، بل ضميرًا. يا سادة، هكذا تتكلم العدالة: لا تطلب إعفاءً، بل إنصافًا، ولا ترفض القانون، بل تذكّر بروحه، ولا تحارب الرسوم، بل ترجو ألّا تكون جدارًا أمام الحقيقة. المحامي ليس غريمًا، بل شريك في إقامة العدل؛ هو الصوت الذي يُسمِع مَن لا صوت لهم، وهو الذي يقف، لا لينتصر، بل ليقول: "العدل هنا.. ولو تأخّر."
0 تعليق