نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"بيتٌ من زخرف": حين تنتصر الرواية للعقل - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 6 مايو 2025 06:18 مساءً
بقدر ما يثير العمل الأدبي من الأسئلة، ويستبطن في طياته أسلوباً وبناءً ومعاني معضلات انشغلت بها نصوص سابقة، وتمّعنت وتمثّلتها محورَ بحثٍ، ومضمارَ تصوير، ومجلى صياغة، إلا واعتبره الدارسون مسهماً في تاريخ الأدب والجنسِ الذي يُكتب فيه، بناءً على أن الأدبَ يتوارث بعضَه بشجرة أنساب، وتراكمٍ متواشج، معنيٌّ بهموم إنسانيةٍ ممتدةٍ في جميع العصور. كلُّ رواية ناضجة تصدُر في زمننا تُرى مكتملةَ الخصائص ومكتنزةً بهموم عصرها مشمولةً بهذا التقييم إلا تحمل تراثاً بدأته الحكاية والأسطورة والملحمة، وتسلّم إرثَه السردُ الفنيُّ الحديث، ثم مضى يتعدد ويتلون في آداب أمم مختلفة متخذًا عديد نماذجَ ورؤىً وأخيلةٍ وأساليبَ بتعدّد الحضارات، والثقافات، والأوضاع الاجتماعية، وخيالات الشعوب، وصراعاتها ومطامحها.
رواية "بيت من زخرف - عشيقة ابن رشد" للروائي المصري إبراهيم فرغلي (دار الشروق، القاهرة، 2024) تنتمي إلى هذه العائلة السردية العريقة والكبرى التي تعتمد الإرث تاريخاً مركّباً عماداً، والقضايا الإنسانية موضوعاً، وتقصِّي أسئلة الوجود في معترك الصراع بين الخير والشر، الحق والباطل، والمحافظة والتجديد بلغة اليوم، أي حين تُبنى الرواية على محور القيم والمُثل. على هذا الأساس نشأت، وحول ثنائيات الصراع تبلورت تيماتُها، وتضاربت رؤاها وتحاورت خطاباتها بين جبْرية الشرائع وسطوة المذاهب وقوة المصالح وحُرقة الرغبة؛ باختصار بين قُطبَي الموضوع والذات، والقطبُ بدوره مركّب يوجد في جدل مع غيره، وهذا أساسٌ ثانٍ ضروريٌّ بدونه لا تُبنى رواية أو تأتي نثراً محكيّاً ساذجاً عدِمَ توترَه الدراميَّ الحاسم.
اختار إبراهيم فرغلي مسبقاً موقعَه وموقفَه بإعلان جهير في "نص العتبة": العنوان الفرعي يحمل جزء منه اسم (ابن رشد)؛ والثاني في الإهداء: ( إلى نصر حامد أبو نصر). نقرأهما فيوجهاننا إلى الطريق الذي سيسلكه السرد، الفكرة التي تستنير بها الرواية، وإلى أي طرف ستنحاز، يمكن بدون تردد تسميتهما ووصفهما بمذهب (الانتصار للعقل) اختيار قِيَمي وأخلاقي إيتيكي. ابن رشد الفقيه الفيلسوف الأندلسي (1126 - 1198) فقيه قرطبة ومراكش في القرن الثاني عشر الميلادي، المشهور بأساس ترجماته للفكر اليوناني كانت يقيناً جسر نقل الفلسفة اليونانية إلى الغرب وتغذيته بالعقل؛ وتعرّض لمحن شديدة في حياته وأحرقت كتبه لمناصرته العقل ضد النقل. كذلك نصر حامد أبو زيد (1943ـ2010) الأستاذ في الجامعة المصرية الذي اتُّهم بالرِّدّة وتعرض للتكفير بسبب أبحاثة، وحُكم عليه بتطليق زوجته، ونفى نفسَه إلى الخارج.
رواية 'بيت من زخرف' لإبراهيم فرغلي.
على هذا الهدْي تنبني شخصيةُ الرواية التي ستقود القسمَ السرديَّ منها، لتتكفل شخصياتٌ أخرى فتروي القسم التاريخيّ الباني لشخص ابن رشد واصفةً محنته والحاملةَ لخطابه وفكرِه العقلاني. سنحاول إجمال القصة (428 صفحة) لفائدة القارئ من ناحية خطّها الخبري الحكائي، يتضمن حبكتها (عنصر التشويق فيها) وكيف يلتقي القسمان فنّاً وفكراً لبناء نص سردي يضعه كاتبه بقصد ووضوح في إطار وبصيغة ما يصطلح عليه بـ"رواية الأطروحة Roman à thèse".
سعد الدين، مصري الجنسية، طالبٌ سابقٌ في موسكو، لظروف عائلية وخاصة ينتقل إلى إسبانيا حيث يكمل دراسته يتعلم الإسبانية ويتخصص في الفلسفة الإسلامية وينال الدكتوراه ويصبح أستاذاً في جامعة مدريد. يزور قرطبة أستاذاً فيلتقي فيها بطالبة تنجذب إليه (ماريا إيلينا)، وتدريجيّاً تُوقعُه في شباك خطة هي مادة القصة الرواية التي نقرأ. تطلب منه أن ينبش قبر صديقة لها ماتت (مانويلا) وتركت معها وصيةَ أوراق لتنشرها بعد وفاتها، لكنها نسيت ورمتها مع باقة ورد في القبر. يستجيب الأستاذ أخيراً بشرط أن يتولّى كتابة الكتاب الذي طلبته، يضمّنه أوراقها التي أرادت نشرها. وهذا ما سيحدث وفيه تفاصيل ومنعرجات ومفاجآت.
قبل التعرف عليها ينتقل الكاتب إلى القسم الثاني من الرواية عنوانه (أفيرويس) ،الإسم العجمي لابن رشد. هنا ستتولى عديدُ شخصيات السردَ للمرحلة الأخيرة من حياة الفقيه قاضي إشبيلية وذلك انتهاءً من نقل رفاته من مدفنه الأول بمراكش حيث عاش في كنف السلطان الموحدي يعقوب المنصور الذي عاقبه ثم قرّبه. بنوع من تقنية الاسترجاع (فلاش باك) يرسم السُّرَّادُ وهم أبناؤه وتلامذته وواحدةٌ بالذات ستتعلق به في الفترة المتأخرة من حياته بين إشبيلية وبلدة أخرى نفاه إليها المنصور. في هذا القسم يُسلّط الضوءُ على الآراء والاجتهادات الفقهية لابن رشد كما أفتى بها وأملاها ونسخ الورّاقون كتبه. مناطُها تحكيمُ العقل في الشؤون الدنيوية وإعمال الفكر وضرورة التأويل خلافاً لسابقيه دعاة النقل والعمل بالظاهر، ما ألّبهم عليه والسلطان الموحِّدي فطورد وأحرقت كتبه ثم يُعفى عنه ويموت غريبًا في الجزء المأسوي ترويه لبنى القرطبية.
هذه الشخصية هي عروة روايتين، بالأحرى ثلاث روايات مطوية بعضها ببعض ومتواشجة في آن (enchâssement). عرفنا الأوليين: قصة سعد الدين السارد الأكبر العليم، منه إلى قصة ابن رشد، والرواية الثالثة قصة لبنى القرطبية، عشيقة ابن رشد المفترضة تخييلا طبعاً. هنا نصل إلى مركز اللعب، وهو نوعان: الأول، إلى فن الكاتب فرغلي، بما يجعل عمله روائيّاً لا التزاماً عَقْدياً، فقط. لُبنى هذه هي العشيقة بطلة القصة التي تزعم مانويلا صاحبة الأوراق المستخرجة من القبر أنها ترجمتها من أخرى كُتبت في قرن سابق عليها بالعبرية وترجمتها هي إلى الإسبانية تصل أخيراً إلى الأستاذ المصري ليترجمها إلى العربية، هي التي تحت أبصارنا نحن القراء تحكي سيرة ابن رشد وكان حافزُها أنه ممن تعرضوا للهجوم بين المسلمين والمسيحيين، ونقل تراث أرسطو إلى أوروبا بما أنجب ثورة فكرية هائلة فيها. حول هذه الشخصية ينسج الكاتب قصة أخرى ذات حبكة بوليسية، لينتهي في الأخير إلى مطابقة بطله السارد الأول الأستاذ سعد الدين بابن رشد فهو نفسه هاجر من مصر لتعرضه للاضطهاد الفكري في الجامعة، مستنسخاً فيه سيرة اضطهاد نصر حامد أبو نصر.
النوع الثاني من اللعب في هذه الرواية الراجحة هو توظيف التاريخ لخدمة سرد التخييل لا كتابة رواية تاريخية، و" بيت من خزف" نموذج ناجح لهذا التحويل، ولمهارة الكتابة على الطرِّس، وأخيراً وليس آخراً، لامتلاك شجاعة كاتب عربي الانتصار للعقل والفكر الحر ضد الجمود والظلامية، فيما تسبح جلُّ الروايات العربية حاضراً في الخيبة واحتلاب الذات.
0 تعليق