رحلته إلى هارفارد - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
رحلته إلى هارفارد - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 6 مايو 2025 05:48 مساءً

الدكتور ظافر العاني

لا شك في أن الحلم الذي راود كل طلبة العلم، كما راودني، هو أن ينتسبوا إلى هارفارد. فهذه الجامعة العريقة ظلّت على مدى عقود تتربّع على قمّة الجامعات في العالم. طلبتها من النخبة، وأساتذتها هم نخبة النخبة من بين أساتذة العالم، ولديها أكبر عدد من الفائزين بجائزة نوبل في مختلف العلوم، والبحوث التي تخرج من مراكز أبحاثها تصبح مصدراً أساسياً لكل أشكال المعرفة، والمجلات الأكاديمية التي تصدر عنها هي الأكثر علمية وتداولاً بين المختصين.

ولكن هارفارد ليست متاحة للجميع، فانتقاء الطلبة يخضع لأكثر المعايير صرامة وعدلاً، وليس التفوّق الدراسي هو العامل الوحيد، بل إلى جانبه القدرات الشخصية القيادية والقابلية للابتكار والطموح العلمي. وحلم هارفارد بالنسبة إلى الطلبة لا يتعلق بالعلم وحده والرغبة في التميّز، بل لأن الشركات الكبرى تفضّل خريجي هارفارد على سواهم وتقدّم لهم عروض وظائف بمرتبات عالية لا يحصل عليها أقرانهم في وظائف مماثلة، والكثير منهم تحجزهم الشركات وهم على مقاعد الدراسة.


إنها فرصة لا تتاح إلا لطالب واحد من أصل ألف طالب متقدم. ولكن، ماذا لو أصبح المرء أستاذاً في هارفارد، بل كبير الزملاء فيها؟ لا شك في أنه فخر لا يدانيه شيء آخر. إنها قصة الأستاذ الدكتور عبد الخالق عبد الله، الأكاديمي الإماراتي المعروف والجدلي، الذي يباغتنا كل يوم بفكرة مختلفة، وقد أصبح كبير الزملاء في كلية كينيدي، وهي الكلية الأشهر في هارفارد والمختصة بطلبة الدراسات العليا في العلوم السياسية والحكومية. وقد وثّقها في كتابه المشوّق "رحلتي إلى هارفارد"، الذي كتبه بشفافية يُحسد عليها، وانطوى على توثيق تجربته العلمية والإنسانية في رحاب هارفارد أستاذاً لمادة الخليج العربي مستنداً إلى كتابه الذائع الصيت "لحظة الخليج"، ومسجلًا لنا أهم ما جعل هذه الجامعة تتصدر صفوف زميلاتها من الجامعات الرصينة، حتى ليخال لي أنه لم يترك معلومة مفيدة إلا قالها.


التدريس في هارفارد يبعث على الفخر ولا ريب، وهو تتويج يتمناه أي أكاديمي حصيلة لإنجازاته العلمية، ولا سيما بعد التقاعد، كما كان مع الدكتور عبد الخالق. لكن الفخر ليس كافياً، فالتدريس في هارفارد مسؤولية أكاديمية وتحدٍّ عالي الخطورة، يتمثل في الكيفية التي تخرج بها من هذه التجربة بهامة علمية أعلى، وبانعكاس إيجابي على طلابك وعلى الجامعة التي استضافتك ضيافة وصفها الكاتب بأنها سخيّة ومثالية. وهذا لا ينصرف على الأجر العالي وحده أو توفير السكن اللائق والضيافة الكريمة، وإنما يشمل توفير المناخ التدريسي المثالي والأجواء اللازمة لإنجاز البحوث، والنشاطات العلمية المتواصلة، والتسهيلات الإدارية الجمّة، وأجواء الحرية الفكرية التي تتيح لكل أستاذ وطالب أن يقولا ما يعنّ على فكرهما من دون تهيّب أو قيود.

وفي كل مفصل من رحلته الهارفاردية، لم ينسَ الدكتور عبد الخالق المقارنة بين تلك الأجواء وما هو موجود في النظام الجامعي العربي، وكذلك مقارناته بما هو موجود في الخليج العربي ودولة الإمارات العربية التي كان فيها أكاديمياً لما يقارب ثلاثة عقود؛ سواء من حيث الأجور أو الأعباء التدريسية أو العوائق الإدارية التي حوّلت الأستاذ الجامعي في معظم الأحيان إلى مجرد مدرس يلقّن طلبته ما هو موجود في المصادر دونما إبداع، بينما تُمنح البحوث اهتماماً ضئيلاً، في وقت تكون فيه أهم شواغل الأستاذ الجامعي الناجح في الجامعات الغربية العريقة.


فاجأني الكتاب بالتفاصيل الممتعة وغير المعروفة التي أضفت عليه مصداقية عالية؛ فهو يذكر لنا أهم مكتبات الجامعة وتصنيفات الكتب التي تحتويها، ومرّ بنا على أسماء طلبته في الحلقة الدراسية وتفاصيل خبراتهم واهتماماتهم، ونوعية العلاقة بين الأستاذ والطالب، وأهم النقاشات التي دارت، والأسئلة التي حيّرت الطلاب عن الشأن الخليجي، وعن لورين الباحثة المساعدة التي رافقت رحلته الأكاديمية وتتطلع إلى إنجاز بحثها عن دولة الإمارات العربية، والأعمال التطوعية التي يقوم بها الطلبة على مدار الساعة من خلال 400 منظمة مجتمع مدني.

أول ما تأسّست هارفارد كمدرسة دينية صغيرة في بوسطن، ثم تحولت عام 1636 إلى كلية لاهوتية تبشيرية باسم كلية نيوتاون، أي كلية القرية الجديدة، وقد تحول اسمها إلى هارفارد بـ400 كتاب لا أكثر و779 دولاراً قدمها رجل متديّن ثريّ وسخيّ هدية للكلية كان اسمه جون هارفارد. وتكريماً له، أُطلِق اسمه على الكلية التي تطورت من كلية تبشيرية عنصرية يقتصر الانتساب إليها على الأنغلوسكسونيين، إلى جامعة علمانية تمقت التشدّد والتعصّب، ثم إلى جامعة عالمية تضم في رحابها طلاباً من شتى أصقاع العالم. والـ400 كتاب التي ابتدأت بها مكتبتها صارت اليوم أربعة ملايين، ومبلغ الـ779 دولاراً أصبح اليوم 42 مليار دولار، وهذا الرقم هو الأعلى بين موازنات الجامعات، ولعله يقارب موازنة دولة متوسطة الحجم.

جولة معرفية واجتماعية أخذنا فيها الدكتور عبد الخالق إلى هارفارد، ليحكي لنا من داخل أروقتها قصصاً مفعمة بالتحدي والنهوض العلمي، وهو لا يكتفي بذلك، بل يصطحبنا معه بجولة  في بوسطن وباقي الولايات الأميركية، يزور معالم مهمة كالمعارض والمتاحف، ويتسلق جبالاً، ويجول فيافيَ، ويستنبط من مشاهداته أدلة على عمق الأزمة العنصرية في أميركا التي تفشّت في الفترة الأخيرة لتصبح معياراً للتصويت بدلاً من الانتماء السياسي. ولم أستغرب من الدكتور عبد الخالق جولاته الكشفية تلك، فهو رحّالة معروف في أوساط الجوّالين، إلى حدّ أني في مكالمة هاتفية قبل بضعة شهور سمعت وأنا أحادثه أصوات أمواج عالية وهدير محرّكات، ولما سألته: أين أنت يا دكتور؟ قال لي بكل بساطة إنه في القطب الجنوبي في رحلة استكشافية ومعه أم خالد، يلاعبان الحيتان والفقمات.

إذا صادف وكان الكتاب بين يديك، أنصحك بألّا تفوّت المقدمة، فهي وحدها كتاب، وقد كتبتها زوجته ورفيقة رحلته الدكتورة ريما الصبّان، أو "أم خالد" كما يسمّيها في الكتاب تودّداً.

وأنا أتصفح الكتاب اليوم، قرأت في الأخبار أن الرئيس الأميركي قرر حجب المساعدات الحكومية عن جامعة هارفارد لأن طلبتها وقفوا إلى جانب غزة في محنتها الإنسانية، وشنّوا أكبر حملة طلابية لمناصرة الضحايا في فلسطين. سيذهب ترامب بعد سنوات قلائل وسينساه كثيرون، أما هارفارد فستبقى شعلة وضّاءة للعلم والحرية، وسيبقى كتاب الدكتور عبد الخالق شاهداً على التنبؤات الدقيقة التي جاءت فيه.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق