خالد إسماعيل يقدّم معكوس السيرة الهلالية في رواية "أبو القمصان" - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
خالد إسماعيل يقدّم معكوس السيرة الهلالية في رواية "أبو القمصان" - تكنو بلس, اليوم الأحد 18 مايو 2025 08:14 صباحاً

خالد إسماعيل يقدّم معكوس السيرة الهلالية في رواية

رواية "أبو القمصان" لخالد إسماعيل.

Smaller Bigger

تقوم رواية "أبو القمصان"، للكاتب المصري خالد إسماعيل، الصادرة حديثاً عن دار "الأدهم" في القاهرة، على تقنية السرد الذاتي، بصوت بطلها "سعيد أبو القمصان"، الذي قرر أن يكتب سيرة عائلته المنحدرة من سلالة من العبيد، من داخل السجن الذي يقضي فيه عقوبة عن جريمة قتله باحثة في الفولكلور ذي الجذور الأفريقية في جنوب مصر. هو قتلها انتقاماً "لاستعبادها" إياه، ففيما كانت توهمه بأنها مغرمة به، ظلت لسنوات عديدة تستغله في إنجاز البحوث الميدانية والنظرية التي حصلت بمقتضاها على درجتي الماجستير والدكتوراه. وهنا يقدم خالد إسماعيل سيرة معكوسة، إذا جاز التعبير للسيرة الهلالية التي مجّدت أبا زيد الهلالي الذي كان أسود البشرة، لكنه كان مقدَّراً في قبيلته لانحداره من نسل يتوارث السيادة جيلا بعد جيل، سواء من ناحية والده رزق بن نايل أم أمه  خضرة الشريفة، فيما ظل رفيق دربه "أبو القمصان" يورّث العبودية لنسله، إلى أن اتخذت شكلاً جديداً مثَّله "سعيد أبو القمصان" بانسحاقه أمام "يونس الهلالي" و"دينا الصياد"، المنحدرين من أصول تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة.   
لن يعرف القارئ أن "سعيد أبو القمصان"، يسرد سيرته مع تلك الصورة من العبودية، التي هي امتداد لصورة قديمة جرى إلغاؤها رسمياً في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، إلا في بداية الفصل الخامس المعنون بـ "يونس الهلالي". تتألف الرواية من ستة فصول يتصدر كل منها اسم إحدى الشخصيات التي يتحدث عنها "سعيد أبو القمصان"، وهي جميعاً تنتمي إلى عائلته باستثناء الشخصيتين الأخيرتين، "يونس الهلالي" و"ناهد الصياد". 
رسائل اليائسين
والراوي هنا يتوجه إلى مروي عليه مجهول، لكنه يفسح مساحة فصل كامل لرسالة كتبها عمه "فرج أبو قمصان" وهو في جبال اليمن ضمن قوات مصرية ذهبت إلى هذا البلد في عام 1963لنصرة ثورة عبد الله السلال التي أعلنت الحكم الجمهوري وألغت حكم الأئمة. رسالة "فرج" هذه عثر عليها "سعيد" في صندوق يخص جدته لأبيه واسمها "مراسيلة"، ويبدو أنها كانت بين ما سلَّمته لها السلطات عقب استشهاد ابنها ودفنه في صنعاء. وهي موجَّهة إلى الإمام الشافعي (767 – 820م)، ويبدو أن "فرج" كان ينوي وضعها في مقصورة ضريح هذا الإمام في القاهرة، على عادة كثيرين من البسطاء والتي خضعت لدراسة أنجزها عالم الاجتماع سيد عويس وصدرت عام 1965 في كتاب. هو فعل ذلك طلباً لعدل إلهي، بعدما ضج من ظلم الأحياء.                
لم يندم "سعيد أبو القمصان" على قتله "ناهد الصياد"، لكنه ندم على أنه لم يقتل معها صديقه "يونس الهلالي" الذي خانه معها. وهو عبر هذه الكتابة الأقرب إلى الحكي الشفاهي، سعى إلى قتل أبيه معنوياً، "المنافق الملعون الحقير، يعبد القرش ويموت في سبيل الجنيه ويتقرَّب إلى كل صاحب سلطة ويتباهى بالخنوع. جعلني خرقة بالية". فرّ "سعيد" من قهر أبيه له ولأمه، ليرتمي في أحضان قاهر آخر هو "يونس الهلالي"، لمدة عشر سنوات بدأت من تعارفهما طالبين في كلية الآداب في جامعة القاهرة: "كان بارعاً في الكذب. عشتُ معه مكسور الجناح، أطيعه ولا أعصى له أمراً، كنتُ مسلوب الإرادة ومغيّب الوعي، ولم تكن هناك رغبة من جانبي في قطع علاقتي معه، فأنا لا أعرف ملجأ غيره" (ص 107). 
أسطرة الواقع
تزخر الرواية بالشفاهية على طريقة السير الشعبية، كما تزخر بالميل إلى أسطرة وقائع على نحو يخالف التأريخ الرسمي، ومن ذلك ما نقله "سعيد" عن أقارب له بخصوص عصابة الأربعة "ريا وسكينة وحسب الله وعبد العال"، من أن قتلة النساء هؤلاء بغرض الاستيلاء على حليهن الذهبية، هم أصلاً من الصعيد، وكانوا يحاربون الإنكليز على طريقتهم، فالنسوة المقتولات كن بغايا وزبائنهن كانوا من جنود الاحتلال في مدينة الإسكندرية في عشرينيات القرن الماضي، "لكن الحكومة الخاينة بتاعتنا لفقت لهم التهمة وقالت انهم بيقتلوا النسوان عشان الدهب والفلوس" (ص 41). أما حكاية "شفيقة ومتولي"، فتدل من وجهة نظر "يونس الهلالي" خريج كلية الآداب، إلى شهامة ذلك الشاب الذي قتل شقيقته بعدما مرَّغت شرف العائلة في الوحل، كما تدل على نخوة القاضي الذي تعاطف معه ورأى أنه لا يستحق السجن سوى لستة أشهر، لإزعاج السلطات، وليس لقيامه بالقتل. وهنا يتماهى "سعيد" مع "متولي"، لكنه عوقب بالسجن المؤبد على جريمة قتله "ناهد الصياد"، التي لم يندم عليها، كما لم يندم "متولي" على قتل "شفيقة" بل تفاخر به استناداً إلى عادات تمجد الثأر.       
وهكذا مضت حياة "سعيد أبو القمصان" في قهر متصل، فأبوه أورثه البشرة السوداء ما جعله عرضة طوال الوقت للتنمّر، كما أورثه لقباً ممهوراً بخاتم العبودية وفق "السيرة الهلالية" التي لا تزال تحظى بشعبية كاسحة في جنوب مصر وشمالها على حد سواء. كان "يونس" المولود في المحيط الجغرافي نفسه (محافظة سوهاج في صعيد مصر) يحتفي به ظاهرياً ويداعبه بأنه "حبة سمراء"، لكنه مداعبة تطوي في الحقيقة على معايرته بأنه من نسل العبيد الذين لطالما استعبدتهم أسرته، في الماضي والحاضر. يتولى "سعيد أبو القمصان" السرد، من البداية إلى النهاية، عن معاناته وعائلته من التنمر بسبب لون البشرة، حتى بعد أن فروا من الصعيد إلى القاهرة. كان الأطفال كلما رأوا والده الشيخ الأزهري عائداً من عمله يهتفون: "يا جوهر يا مجنون، يا عبد يا زربون"؛ "وكنتُ أراه في الشارع خانعاً يكاد يبوس أيدي من يلقاهم من الجيران" (ص 8). 
تعاسة متصلة
لم تكن أمه من ذوات البشرة الداكنة، لكنها كانت من عائلة تتخذ من إصلاح الأحذية البالية حرفة، فكان ينظر إليها على أنها من طبقة منبوذة، ويقال لمن يعمل بها "جزماتي" أو "صرماتي". وهكذا تضاعفت معاناة "سعيد"، الذي كانت حياته سلسلة متصلة من التعاسة. في طفولته كان يعاني من تنمر طفل آخر يدعى "حموكشة": "أول مرة ضربني فيها نهب مني خمسة قروش – مصروفي – وعيَّرني بسواد وجه أبي". هذا المتنمر كانت أمه بائعة جرجير وكان أبوه من الغجر، سمكري يصلح بوابير الكاز والحنفيات وأقفال الأبواب، وفي أيام الأعياد كان يعمل في سن السكاكين والمقصّات. جدة السارد لوالده تدعى "مراسيلة"، "كانت سوداء مثل أبي"... "حزنتُ لما علمت أن أقارب والدي يخدمون عائلة خويلد وهم من العربان القادمين من بلاد المغرب العربي".  
 كان يرغب في أن يلتحق بكلية الحقوق ليصبح وكيل نيابة، لكن والده أصر على أن يلتحق بكلية الآداب، لأن المضمون في حالته هو أن يعمل معلماً في مدرسة، وليس الالتحاق بسلك النيابة والقضاء، بالنظر إلى أصله المتواضع اجتماعياً. أما عمه "فرج" فكان يطمح إلى أن يلتحق بكلية الطب، لكنه لم يتمكن من اجتياز الثانوية العامة، فعمل في مكتبة، ما أتاح له قراءة الكثير من الكتب، قبل أن يلطمه زبون وينعته بالعبد: فيتساءل في ألم: "لماذا خلقني الله أسود اللون؟" (ص 56)، وبعد تطوعه في الجيش، استمرت معاناته من سوء معاملة رؤسائه له، الذين كانوا ينادونه: "يا غراب البين" تحقيراً له. 
...  

العلامات الدالة
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق