نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 - "الرحيل يوماً": فيلم مُغنَّى بنكهة الماضي - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 14 مايو 2025 07:42 مساءً
سبق لبونان أن أنجزت فيلماً قصيراً عن الشخصية التي تعرفنا إليها أمس، لكن العمل الحالي لا يُعدّ امتداداً مباشراً لذلك الفيلم (استمراراً للظاهرة التي تفشّت في السنوات الأخيرة)، بل تنويعة مختلفة عليه، إن صح التعبير.
بطلة الفيلم طاهية تُدعى سيسيل (جولييت أرمانيه)، تشتغل على افتتاح مطعمها الذوّاق بعد فوزها في أحد البرامج التلفزيونية المخصّصة للطهي، لكنها تضطر إلى العودة إلى قريتها التي هجرتها قبل سنوات، إثر وعكة صحية ألمّت بوالدها (فرنسوا رولان). هناك، تواجه ماضيها، ورفاق طفولتها، والأماكن التي نشأت فيها.
بين عدم رغبتها في الإنجاب، وعلاقتها المأزومة بحبيبها (توفيق جلاب)، وصراعها العميق مع والديها، من جهة، وطموحها المهني من جهة أخرى، تبدأ الطاهية تدريجاً بالتصالح مع ماضٍ يبدو أنها كانت تفرّ منه باستمرار، من دون أن تجرؤ على مساءلته. وهنا تجد الفرصة للنظر إلى الخلف للمرة الأولى، علّها تعثر فيه على ما يُنير أسئلتها الحاضرة.
جولييت أرمانيه في دور الطاهية سيسيل.
إنه الماضي، والنظر إليه بوصفه مرآةً للعلاج والتقدّم، في فيلم فرنكو فرنسي بامتياز، تميل لغته إلى الكوميديا العاطفية، وتلامس أحياناً النمط التلفزيوني. فيلم يقوم على تيمات مثل الندم، والفرص الضائعة، والحنين، ويزدان بلحظات شاعرية ناعمة، تخلو من الصخب والادعاء، بلا إمكانات تقنية جارفة.
يحملنا الفيلم إلى الريف الفرنسي، بلا مناظر طبيعية مذهلة، إلى حيث إيقاع الحياة يختلف كلياً عن باريس، وحيث الناس لا يزالون عالقين في زمن آخر، لا تزال فيه الدهشة حيّة، والأشياء الصغيرة تصنع متعهم اليومية. يمنح الفيلم البسطاء دور البطولة في عمل لا يبحث بالضرورة عن أكثر من وضع هؤلاء في الكادر السينمائي، واستعادة الاعتبار لوجودهم الهامشي، لكنه وجود لا يقل أهميةً.
وانطلاقاً من هذا المنظور، يرسم الفيلم مقاربة رقيقة للتباين بين الريف والمدينة: الأول باعتباره مكاناً يخنق الطموح ويكبّل الرغبة في التحقّق، والثانية كفضاء يطلق أجنحة الحالمين. وهكذا يعود النقاش القديم المتجدّد حول التعالي الباريسي تجاه سكّان الريف، والأفكار المسبقة التي لدى الريفيين عن أهل باريس، في طرح قد يكون مبسّطاً للحكاية، لكنه لا يخلو من صدق.

سيسيل مع أمّها (دومينيك بلان).
الشخصيات الثانوية التي تحيط بسيسيل وتفيض بالأحاسيس وردود الأفعال، تُعدّ من أجمل عناصر الفيلم. فهؤلاء "الهامشيون" في الظاهر، هم مَن يمنحون العمل روحه ودفأه. أما ما يمد الفيلم بحسّه الابتكاري الصريح، فهو خوضه مغامرة سينمائية نادرة: الفيلم المُغنَّى. لكن، ليس على طريقة جاك دومي، بل أقرب إلى ما فعله ألان رينيه في "نعرف الأغنية"، حيث استخدم تقنية الـ"بلايباك"، فبدت الشخصيات كما لو أنها تغنّي، بينما تؤدّي في الحقيقة مشاهد تمثيلية مصاحبة لأغانٍ مسجَّلة سلفاً.
وبينما رأى البعض في الأسلوب المتّبع لدى بونان مجرد حصّة "كاريوكي"، بدا الفيلم في الواقع ذكياً، لمّاحاً، وبالغ الحنكة في توظيف الأغاني التي تبدأ الشخصيات في أدائها فجأةً، من دون تمهيد، فتمنح المشاهد لحظات مفاجئة تمزج بين الدعابة والرهافة.
نعم، نحن في تلك اللحظات داخل السينما، أمام الشاشة، نكون فيها أبعد ما يمكن عن الحياة. وهذا ما يتجلّى بوضوح في الخيار الجمالي الذي اتّخذته المخرجة. ومع ذلك، لا تلبث الحياة، بواقعها ومشكلاتها وأزماتها، أن تعود لتطرق الباب بين لحظة وأخرى، كأنها ترفض أن تُقصى.

أرمانيه مع أميلي بونان.
فكرة الفيلم لا تحمل جديداً من حيث الموضوع، إلى حدّ يمكن تفهّم من يراها "سينما منقرضة" تنتمي إلى زمن غابر. لكن السر كلّه في المعالجة، في التفاصيل الهامشية، في قدرة النصّ على خلق مناخ خاص، وفي مهارته في التقاط ردود الأفعال والتعامل معها بعناية.
وقد اختارت المخرجة بساطة الطرح ترافقها خفّة إيجابية، لنقل ذلك كله إلى الشاشة؛ فلا شيء في الفيلم يزعج، أو يصدم، أو يستفز. لا لؤم فيه تجاه إنسان، أو ضغينة تجاه حالة، وهذا ما يفسّر ربما سبب عدم إعجاب البعض به، فنحن حيال فيلم يتنفّس من مسام جلده، بهدوء وسكينة.
هذا لا يعني أننا أمام سيناريو مثالي. فخيوط الحبكة تبدو أحياناً مكشوفة أكثر ممّا ينبغي، وتطورها شبه معدوم في بعض الأحيان. جوانب عدة تستحق النقاش، أبرزها كيفية تناول العلاقات، خصوصاً تلك التي تربط سيسيل بحبيبها، أو بوالديها. فهذه العلاقات لا تحظى بالعمق الكافي، وتبقى من الكماليات، إما لضيق الوقت، أو لأن المخرجة لا تعتبر الغوص فيها أولوية.
0 تعليق