همس الوحدة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
همس الوحدة - تكنو بلس, اليوم الجمعة 9 مايو 2025 01:37 مساءً

ليا إبراهيم

 

 

تسكن الوحدة في أعماقنا كما يسكن الليل في قلب البحر، في هدوئه العميق وتكتّمه الغامض. لا تسمع فيها سوى همسات الروح التي تكشف عن نفسها في صمت مطلق، بعيدًا من ضوضاء العالم الخارجي. هي ليست غيابًا عن الآخرين، بل حضور كامل مع الذات، لحظة من الاستراحة الداخلية التي تعيد ترتيب الأفكار وتوجهات الحياة. في وحدتنا، نتقابل مع الذات التي غابت تحت أكوام من الانشغالات اليومية، ونتعرف عليها من جديد، كما تتعرف الزهور على ضوء الشمس بعد غيمة طويلة.
في أعماق الوحدة تكمن القوة التي لا نراها في الضوضاء، تلك القوة التي تجعلنا نواجه حقيقة وجودنا بلا تزييف أو هروب. في تلك اللحظات العميقة، نجد أنفسنا نبحث عن إجابات ليست في الخارج، بل في داخلنا. حين يبتعد الآخرون، لا نختفي نحن، بل ننكشف. يكشف كل منا عن وجوهه المتعددة، بين هواجس النفس وتطلعات الروح. هي فرصة لتجاوز الزيف الذي يحيط بنا ولإعادة اكتشاف قوتنا الداخلية، تلك القوة التي كانت في الأساس محجوبة تحت طبقات من الخوف والاعتماد على الآخرين.
الوحدة، في رحلتها العميقة، تمنحنا حرية غير محدودة، الحرية التي لا تعتمد على آراء الآخرين أو توقعاتهم. إنها فجر من الانطلاق نحو الذات، حيث يصبح الشخص سيد اختياراته وحركاته. في عالمنا المعاصر، حيث يصبح كل شيء عابرًا، تأتي الوحدة لتعيد لنا توازننا. لا ندرك الحرية الحقيقية إلا عندما نكون قادرين على الانفصال عن الخارج والاتصال بما هو داخلي، تلك اللحظات التي فيها يصبح الزمن أكثر بطئًا وأكثر صفاءً.
أما في العلاقات العاطفية، فإن الوحدة تلعب دورًا محوريًا آخر. في الحب، لا يعني الارتباط بالآخر فقدان الذات، بل هو مشاركة تنبع من مكان مستقل، من حيث يعترف كل طرف بوجوده الكامل وغير المشروط. عندما يبتعد الشخص في بعض الأحيان ليكون مع نفسه، فإن ذلك يخلق مساحة أوسع للتواصل الحقيقي، بعيدًا من التوقعات أو الأعراف التي تفرضها العلاقات. تلك اللحظات من العزلة ليست فراغًا، بل هي تنمية للنمو الشخصي الذي يعزز من قوة العلاقة. فالحب لا يقوم على الاعتماد المتبادل الكلي، بل على فهم كل طرف لحدوده وقدرته على الحفاظ على ذاته.
في النهاية، تظهر الوحدة حالة من التوازن بين التواجد في العالم وبين الانفصال عنه، حيث تجد الروح نفسها وتكتشف حريتها. هي ليست هروبًا، بل مسار نحو التحرر الداخلي، الذي من دونه تصبح العلاقات عاطلة والنفس مشتتة. هي مساحة من الصفاء التي تسمح للإنسان أن يكون أكثر صدقًا مع ذاته ومع الآخر، لتبقى بذلك الوحدة ليس هروبًا فقط، بل ضرورة للبقاء.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق