بدأت وزارة المالية الكويتية، بالتعاون مع الجهات الحكومية المختلفة، في تطبيق خطة شاملة لإعادة النظر في تسعير الخدمات الحكومية بما يعكس تكلفتها الحقيقية، ضمن توجه استراتيجي يستهدف تحقيق كفاءة أكبر في إدارة المرافق العامة ومواءمتها مع التطورات الاقتصادية والمالية التي شهدتها البلاد خلال العقود الماضية.

ووفقاً لما نشرته صحيفتا “الراي” و”القبس” المحليتان، فإن 6 جهات حكومية ستكون على رأس الأولويات في المرحلة الأولى من التنفيذ، وهي وزارات الداخلية، والبلدية، والكهرباء والماء، والعدل، والصحة، بالإضافة إلى إدارة أملاك الدولة، نظراً لكونها الأكثر تأثيراً في تقديم الخدمات من حيث القيمة والعدد.

تحقيق عوائد بمئات الملايين.. دون المساس بالخدمات الأساسية

التقديرات الأولية تشير إلى أن الخزينة العامة يمكن أن تحقق تدفقات مالية ضخمة تقدر بمئات الملايين من الدنانير من خلال هذه الخطوة، التي تأتي استجابة للحاجة الملحّة إلى تحديث رسوم الخدمات الحكومية التي لم تشهد تعديلاً جوهرياً منذ عقود، وبعضها يعود إلى ستينيات القرن الماضي.

هل يتأثر الكويتيون بإعادة التسعير؟

أكدت مصادر حكومية أن القرار الجديد لن يشمل أي تعديل في أسعار الخدمات الأساسية المرتبطة مباشرةً بمعيشة المواطنين، مثل الكهرباء والماء والبنزين، وهو ما يضمن الحفاظ على العدالة الاجتماعية وعدم التأثير على الحد الأدنى للمعيشة.

اقرأ ايضا: ارتفاع مفاجئ في الأحمال.. الكويت تتحرّك لحماية بنيتها التحتية من تعدين العملات

نفضة تشريعية وإدارية تطال القوانين القديمة

القرار الحكومي الذي صدر في اجتماع مجلس الوزراء الأخير يأتي بمثابة “نفضة” شاملة للقوانين والقرارات القديمة، خصوصاً تلك التي فقدت صلتها بالتطورات الاقتصادية، وأصبحت غير متوازنة مقارنة بتكلفة تقديم الخدمة.

وبحسب المصادر، فإن التعديلات المنتظرة ستشمل رسوم استخراج وتجديد التراخيص التجارية، ورسوم البريد، والجمارك، والتأمين، وتراخيص البناء، إلى جانب خدمات التنظيف للعقارات التجارية والاستثمارية والصناعية والحرفية.

كما ستطال التعديلات رسوم التسجيل في الجهاز المركزي للمناقصات وشراء كراسات المناقصات والممارسات.

نحو نموذج تسعيري عادل وعملي

تخضع عملية إعادة التسعير لدراسة تفصيلية معمقة، يقوم بها فريق مشترك من وزارة المالية والجهات الحكومية المعنية. وتهدف هذه الدراسة إلى الوصول إلى نموذج تسعيري يعكس التكلفة الفعلية للخدمة من جهة، ويحقق العدالة والشفافية للمواطنين والمستفيدين من جهة أخرى.

وستعتمد الدراسة على تحليل شامل لبنية كل خدمة والموارد المستخدمة لتقديمها، مع مراعاة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية عند تحديد التسعيرة الجديدة.

مرسوم جديد يُلغِي قانون 1995 ويمنح الجهات مرونة التسعير

وفي خطوة تشريعية مهمة، أصدر أمير الكويت مرسوماً بقانون رقم (1) لسنة 2025 يقضي بإلغاء القانون رقم 79 لسنة 1995 بشأن الرسوم والتكاليف المالية مقابل الانتفاع بالمرافق والخدمات العامة. ووفقاً للمرسوم الجديد، ستتولى كل جهة حكومية تحديد رسومها الخاصة وفقاً لقانونها المنظم، بعد موافقة مجلس الوزراء.

وتهدف هذه الخطوة إلى تعزيز المرونة المؤسسية لدى الجهات الحكومية وتمكينها من تطوير آليات تسعير أكثر واقعية وارتباطاً بالخدمة الفعلية المقدمة، مع مراعاة المعايير الاقتصادية والمجتمعية.

المالية تقود التنسيق وتتابع التنفيذ خلال شهرين

أفادت المصادر بأن وزارة المالية ستعقد خلال الشهرين المقبلين اجتماعات مركزة مع الجهات الحكومية ذات الأولوية، لمناقشة تفاصيل الرسوم المقترحة وإعداد تقارير شاملة عن كل جهة على حدة. وسيتم رفع هذه التقارير إلى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار النهائي بشأن اعتمادها.

وستركز المناقشات على تحديد الفجوات بين كلفة تقديم الخدمات والمبالغ التي تُحصّل حالياً، إلى جانب استعراض سيناريوهات التسعير المحتملة وتأثيراتها المالية والاجتماعية.

العدالة الاجتماعية في صلب السياسة الجديدة

شددت الجهات الحكومية على أن العدالة الاجتماعية ستظل محور أي خطوة تتعلق بإعادة هيكلة الرسوم، وأن التعديلات ستتم بعناية لتفادي أي تداعيات سلبية على المواطنين من ذوي الدخل المحدود أو الفئات التي تعتمد على خدمات الدولة بشكل رئيسي.

وأوضحت المذكرة الإيضاحية المرفقة بالمرسوم الجديد أن تنظيم الطلب على الخدمات وتطوير إدارتها يأتي توخياً لمبدأ حسن إدارة المرافق العامة، بما يتيح تحسين نوعية الخدمة وكفاءتها دون تحميل المستفيدين أعباءً غير مبررة.

الاستثناءات تشمل البنزين والمرافق الحيوية

من أبرز النقاط التي أكدتها المصادر الحكومية أن خدمات مثل البنزين، والكهرباء، والماء لن تشملها المراجعة السعرية الجديدة، لكونها تدخل بشكل مباشر في معيشة المواطنين اليومية، ولأنها مدعومة من الدولة وتعتبر من أساسيات الحياة.

ويمثل هذا التوجه رسالة واضحة من الحكومة بأنها ماضية في إصلاح هيكل الإيرادات العامة دون المساس بالاحتياجات الأساسية للمواطنين.

تحديث التشريعات خطوة حاسمة نحو الإصلاح المالي

يرى خبراء أن صدور المرسوم بقانون لإلغاء التشريع السابق لعام 1995 يمهّد الطريق أمام تحول نوعي في طريقة تعامل الحكومة مع إيرادات الخدمات. فبدلاً من الاعتماد على رسوم رمزية أُقرّت في ظروف اقتصادية مختلفة تماماً، تسعى الدولة الآن إلى بناء نموذج تمويلي مستدام للخدمات العامة، يعكس الواقع المالي ويشجع على الاستخدام الرشيد لها.

ويؤكد هؤلاء أن هذه الإجراءات تأتي في إطار رؤية أشمل للإصلاح الاقتصادي، تشمل تنويع مصادر الدخل، وتحقيق التوازن بين الإيرادات والمصروفات، وتعزيز فعالية الجهاز الحكومي.

فرص استثمارية من تنظيم السوق

يرى مراقبون أن إعادة تسعير الخدمات الحكومية قد تخلق فرصاً جديدة للاستثمار في قطاعات مثل البناء والتأمين والبريد والنقل، حيث سيؤدي الوضوح في آليات التسعير إلى تعزيز الشفافية وزيادة ثقة القطاع الخاص في التعامل مع الحكومة.

كما أن هذه الخطوة ستفتح المجال أمام مشاريع شراكة بين القطاعين العام والخاص في تقديم بعض الخدمات، وهو ما يتماشى مع توجه الدولة لتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية.

رسالة واضحة للمستقبل: إصلاحات دون مساس بالمواطن

تشير الخطوات الحكومية إلى أن الكويت تدخل مرحلة جديدة من الإصلاحات الهيكلية التي تسعى إلى تعزيز الإيرادات غير النفطية، دون المساس بمستوى معيشة المواطنين. وفي الوقت ذاته، ترسخ هذه الإجراءات مبدأ العدالة والفعالية في استخدام الموارد العامة.

ويتوقع أن تكون الفترة المقبلة حاسمة في تقييم آليات تنفيذ القرار الحكومي وتفاعل الجهات المعنية معه، ومدى قدرة كل وزارة وهيئة على إعداد نموذج تسعير يستند إلى الواقع ويحقق التوازن بين الكلفة والمنفعة.

إصلاح تدريجي بخطوات محسوبة

بينما تسير الحكومة الكويتية في مسار إصلاحي طموح لتحديث هيكل الخدمات، يبقى الرهان الأساسي على التدرج، والدراسة الوافية، والتوازن بين الأهداف الاقتصادية والاحتياجات المجتمعية. وفي حال تحقق ذلك، ستكون الكويت قد وضعت أساساً متيناً لنموذج مالي جديد أكثر استدامة وشفافية.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط