"بئس هذا التعايش!": المخرجة من لبنان والبطلة يهودية والقضية فلسطين - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"بئس هذا التعايش!": المخرجة من لبنان والبطلة يهودية والقضية فلسطين - تكنو بلس, اليوم الاثنين 5 مايو 2025 08:14 صباحاً

نوام التي وُلدت لأب روماني وأم إيرانية، لم تكن يوماً ابنة بيت تقليدي محافظ، كونها نشأت وسط أسرة تعدّ من أكثر العائلات اليهودية انحيازاً للقضية الفلسطينية، وأحياناً أكثر التزاماً بها من كثير من الفلسطينيين أنفسهم.

واحة السلام هي القرية التي تأتي منها نوعم، ابنة الثمانية والثلاثين عاماً. بقعة جغرافية أُنشئت على الطريق بين القدس وتل أبيب، بوصفها نموذجاً لحياة قائمة على التفاهم بين العرب واليهود. لكن مع الوقت، بدأت تلك الفكرة المثالية بالتشقّق أمام عينيها، خاصةً مع ادراكها التدريجي أن "التعايش" يصبح كلمة جوفاء ما لم يُبنَ على المساواة والعدالة. وعندما بدأت ترفع صوتها، بلغة لاذعة وأسلوب ساخر، انتقلت من كونها رمزاً للتعايش إلى مصدر إزعاج للسلطة الإسرائيلية، إلى أن أصبحت من الأصوات النادرة التي لا تتردد في كشف التناقضات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي. يلتقط الفيلم هذه التناقضات بدقّة ومرارة وسخط، مبرزاً المفارقة في أن كثراً ممّن يدّعون مناهضة حكومة نتنياهو يطالبون بالحرية والديموقراطية… لكن لأنفسهم فقط، من دون أن تشمل هذه المطالب الفلسطينيين.

 

نوعم خلال مشاركتها في تظاهرة ضد الحكومة الإسرائيلية.

 

يلامس الفيلم الحساسية المركّبة لدى نوعم وعائلتها في دفاعهم غير المشروط عن المبدأ الإنساني، إلى درجة وضع قضايا العدالة فوق المواقف السياسية المعتادة، بما في ذلك تجاه "حماس" وسلطتها الدينية المفروضة في غزة حدّ صرف النظر عنها في بعض الأحيان. ولا ينسى الفيلم عرض التحوّلات التي طرأت على مناصري القضية داخل إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول، حيث اختار البعض التراجع والانكفاء. لكن نوعم، التي ترى أن التعايش بلا مساواة مجرد خداع لفظي، اختارت المضي قدماً، حتى لو وقفت وحدها في مواجة أعتى الرياح.

بأسلوب تلقائي، حيوي، وبلغتين تتقنهما، العبرية والعربية، تتحدّث نوعم في الفيلم عن رحلتها كيهودية ترفض الاصطفاف خلف قوميتها، وتختار بدلاً من ذلك أن تصغي إلى صوت الضمير، ولو كلّفها ذلك العزلة والاستبعاد والتضييق. حضورها في مهرجان تسالونيك الأخير، حيث فاز فيلمها بالجائزة الكبرى، كان إستثنائياً، صادقاً، صادماً، وخفيف الدم.

في زمن تُحاصَر فيه الأصوات، كي لا يعلو أي منها فوق عربدة الطيران، تستخدم نوعم الكوميديا وسيلة مساءلة لا تبرير، وذلك بمزيج نادر من الشجاعة والصدق والسخرية. كيف يحافظ الفنّان على صوته عندما تُغلق المنصّات واحدة تلو الأخرى؟ وما معنى أن تصنع فيلماً عن واقع يتدهور أمامك بينما تقطّعك الأخبار العاجلة خارج غرفة المونتاج؟ على وقع بعض الأسئلة المزعجة، يحملنا الفيلم في رحلة عبر الألم والعبث، السخرية والفقد، الالتزام والخوف، مراهناً، رغم كلّ شيء، على طرح هزلي، وعلى ضرورة تسمية الأشياء بأسمائها، ولو كان ذلك آخر (وأقل) ما يمكن فعله.

 

المخرجة أمبر فارس.

المخرجة أمبر فارس.

 

في لقائها مع الجمهور، روت نوعم انها وفريق العمل خلال وجودهم في تسالونيك زاروا النصب التذكاري الذي يخلّد مذبحة الخمسين ألف يهودي من سكّان المدينة. "توقّفنا أمامه للحظات تأمل، ولم نستطع أن نمنع أنفسنا من التفكير في الخمسين ألف فلسطيني الذين قُتلوا في غزة. بصفتنا صنّاع أفلام وثائقية، ومواطنين فاعلين في مجتمعاتنا، نؤمن بأن استحضار الماضي هو ضرورة لفهم الحاضر، وهو ما يمكّننا – وربما يُلزمنا – بأن نعيد رسم ملامح المستقبل. نحن، كمجموعة متنوعة من الفنّانين، نصر على الاصطفاف إلى جانب القيم الإنسانية، والوقوف في صفّ الجانب العادل للتاريخ. تسالونيك التي تحمل في ذاكرتها الجماعية جراح المحرقة — في مدينة نجا منها عدد قليل من يهودها، وبينهم جدّتي التي نجت من معسكرات النازيين — يجعل التجربة أكثر ثقلاً. عبارات مثل "لن يتكرر أبداً" فقدت دلالتها، باتت جوفاء". 

تقول نوعم ان اثنين يُعتبران السبب الجوهري في وجود هذا الفيلم، وهما والداها، اللذان حضرا العرض. "كلّ ما شاهدتموه على الشاشة هو من "صنيعهما". هما، بكلّ بساطة، "والداي اليساريان المحرجان" (ضحك)، تعرفون ذلك النوع من الآباء الذين يكرّسون أنفسهم، كما يبدو، لإحراج أبنائهم! حتى والدتي، تخوض سجالات إيديولوجية مع جيرانها اليساريين لتثبت من منهم أكثر "تطرفاً" في يساريته. ذات مرة، قالت لها جارتها: "ابني كشف انه لا ينتمي إلى جنس محدّد". فردّت والدتي بفخر: "حسناً، ابني اعتنق الإسلام!"… يبدو أننا الفائزون في هذه الجولة! أبي كان مرشدي السياسي الأول على الدوام. أولى ذكرياتي عنه تعود إلى الانتفاضة الأولى، حين رأيته يدخل ويخرج من السجن العسكري الإسرائيلي لرفضه أداء الخدمة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. في بيتنا، لم تكن مفاهيم مثل "السلام" و"التعايش" شعارات طنّانة، بل حقائق نعيشها ونمارسها. منذ صغري، تعلّمتُ من أبي أن هذه القيم لا تُقال فقط، بل تُعاش بكلّ ما تحمله من ثمن. وهو لا يزال حتى اليوم فاعلاً بشغف في قضايا المجتمع". 

 

نضال المساواة من خلال السخرية.

نضال المساواة من خلال السخرية.

 

تعترف نوعم انها شعرت بألم لا يوصف، عندما شاهدت النسخة الأولية من الفيلم، اذ لم تتوقّع أن ينتهي بهذه الطريقة. لم يكن هذا هو المسار الذي خُطّط له حين بدأت المخرجة أمبر فارس التصوير ورافقتها في رحلتها إلى هارفرد. "من البداية، كان الهدف هو تفكيك كلمة "تعايش"، وفضح ما تحمله من فراغ عندما تُنتَزع من سياقها، وذلك من خلال قصّتي الشخصية. كنت أستلهم من كوميديين مثل تريفور نوا، الذي استخدم تجربته في ظلّ نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا لنقل رسائل سياسية معقّدة جداً بطريقة ذكية. أردتُ أن أحقّق شيئاً مشابهاً: الغوص في التناقضات التي نشأت في بيئة يغيب فيها ذكر الاحتلال رغم أنه حاضر في كلّ زاوية… كالفيل في الغرفة". 

كان الفيلم في مرحلة المونتاج عندما بدأت إسرائيل تمطر غزة ولبنان بالقصف. "تخيلوا أننا كنّا نحاول تجميع مشاهد من عشرات الساعات، بينما ما يحدث خارج الغرفة كان أكثر وحشيةً من كلّ ما كنّا نحاول توثيقه. تخيلوا أننا كنّا نتنقّل بين خطابات تدعو للإبادة، ولقطات لا تُحتمَل، وعناوين تنزف الألم، ومع ذلك نواصل العمل". 

 

ملصق الفيلم الذي فاز في مهرجان تسالونيك.

ملصق الفيلم الذي فاز في مهرجان تسالونيك.

 

تشارك نوعم، منذ تشكّل وعيها السياسي، في وقفات احتجاجية ضد الحكومة الإسرائيلية، وتتنقّل داخل المجتمع في محاولة لفهمه والتفاعل معه. تعترف انه كانت لها في البداية، مساحة تعبير حر، تظهر في الإعلام وتقول ما تريد وتطرح الأسئلة، لكن مع مرور الوقت، تلك المساحة بدأت بالانكماش وأصبح يتغلّب عليها الصمت. "هذا الصمت، في ذاته، يفصح عن الكثير. ورغم ذلك، لا أزال أقاوم من خلال السخرية، من خلال محاولة جعل الناس يضحكون، يبكون، يصغون. هذا هو التحدّي الأصعب: أن تجد التوازن بين العبث والرعب، بين النكتة والدمار. أردتُ لهذا الفيلم أن يكون تجربة قاسية، ليس بطريقة تُعاقب المشاهدين، بل  توقظهم وتدفعهم إلى التفكير. آمل أن يمنح الناس اللغة اللازمة لتسمية ما يحدث من حولهم، وأن يمنحهم الأدوات لبدء محادثات أعمق وأكثر شجاعةً، سواء داخل مجتمعاتهم، على وسائل التواصل، أو حتى حول طاولة العشاء في منازلهم. لا بد أن نتحدّث. ولا بد أن نتحلّى بجرأة أكبر ونحن نفعل ذلك. أنا أستطيع قول هذه الأمور، لكن أصدقائي الفلسطينيين يتم اعتقالهم. قبل أسبوعين فقط، أُلقي القبض على فنّان كوميدي فلسطيني وهو مواطن إسرائيلي، لا لشيء سوى أنه أطلق نكتة. تخيلوا! دولة تخشى الكوميديا إلى هذا الحد، فتعتقل مَن يجرؤ على السخرية. كلّ ما أقوله في هذا الفيلم، وكلّ ما أشاركه، ليس من بنات أفكاري وحدي، بل هو ما تعلّمته أولاً من الفلسطينيين. اختار والدايَ تربيتي وسط مجتمع فلسطيني حتى لا أنشأ على أنصاف الحقائق، ولا أعيش داخل سردية زائفة. لقد ظلّ الفلسطينيون يصرخون بهذه الحقائق لعقود. لكن المؤلم أنه، في كثير من الأحيان، لا يُلتفت إليهم إلا حين يكررها إسرائيلي يهودي. فجأةً، يقول الناس: "حتى إسرائيلي يهودي يرى الأمور بهذه الطريقة؟". القمع لم يعد نظرية، إنه واقع ملموس. وعندما شاهدتُ الفيلم، صدمني مقدار المساحة التي كنت أملكها ذات يوم. كنت أظهر على شاشات التلفزيون وأتحدّث بحرية. واليوم؟ تلك البرامج نفسها ترفض حتى أن تقتبس مني كلمة. وأكثر ما يؤلمني هو رؤية الكوميديا، أداتي التي لطالما استخدمتها لمواجهة النظام، تُستغَل في خدمة النظام ذاته. فالكوميديون الإسرائيليون الذين ظهروا في الفيلم، غالبيتهم لاذوا بالصمت. لن تجدهم يعلّقون على أي قضية سياسية. بعضهم، للأسف، باتوا "مهرجي السلطة"، يصعدون فوق الدبّابات ويقيمون عروضاً ترفيهية للجنود في القواعد العسكرية. لقد أصبحوا جزءاً من آلة الحرب والهيمنة ذاتها. من المؤلم والمخيف أن أشهد تقلّص المساحة التي لطالما اعتبرتها حيزاً لحريتي ومصدر قوتي. كنت أظن دائماً أن لي هامشاً، ولو ضئيلاً، للمناورة، نافذة صغيرة أستطيع من خلالها استخدام الكوميديا لتحدّي السلطة، لقول الحقيقة، ولو على استحياء. لكن الآن، أرى تلك النافذة تُغلق أمام عيني".

 

نوعم مع والديها بعد عرض الفيلم في مهرجان تسالونيك.

نوعم مع والديها بعد عرض الفيلم في مهرجان تسالونيك.

 

"بلى، أشعر بالخوف"، تقول نوعم رداً على سؤال من أحد المشاهدين. خوف يسيطر عليها أحياناً، لكنها لم تصل بعد إلى اللحظة التي يصبح فيها الاستمرار أشد رعباً من التراجع. "فكرة أن أُسكت نفسي طوعاً، تلك هي الفكرة التي تُرعبني حقّاً. لقد تلقّيتُ دعماً كبيراً من فنّانين إيرانيين يعيشون في المنفى، وشاركوا معي تجربتهم حول ما يعنيه أن يكون لصوتك مدىً أوسع حين تبتعد، أو أن يظل خافتاً لكنه متجذّر حين تبقى. هذه المفارقة ترافقني وتسكن داخلي. أُصغي إليهم بعناية، لأفهم. لا أملك بعد إجابة حاسمة عمّا إذا كنت سأبقى أو أرحل، ولا أين ستكون المساحة الأنسب لي للإبداع والتأثير. لكن ما أعلمه يقيناً هو أن هذا السؤال بات رفيقاً دائماً لي".

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق